فصل: تفسير الآيات رقم (114- 115)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏94‏)‏‏}‏

هذا متصل بذكر الجهاد والقتال والضرب‏:‏ السير في الأرض، تقول العرب ضربت في الأرض‏:‏ إذا سرت لتجارة أو غزو أو غيرهما، وتقول ضربت الأرض بدون ‏"‏ في ‏"‏‏:‏ إذا قصدت قضاء حاجة الإنسان، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا يخرج رجلان يضربان الغائط ‏"‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَتَبَيَّنُواْ‏}‏ من التبين وهو التأمل، وهي قراءة الجماعة إلا حمزة، فإنه قرأ‏:‏ «فتثبتوا» من التثبت‏.‏ واختار القراءة الأولى أبو عبيدة، وأبو حاتم قالا‏:‏ لأن من أمر بالتبين فقد أمر بالثبت، وإنما خصّ السفر بالأمر بالتبين، مع أن التبين والتثبت في أمر القتل واجبان حضراً، وسفراً بلا خلاف؛ لأن الحادثة التي هي سبب نزول الآية كانت في السفر، كما سيأتي‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السلام‏}‏ وقرئ ‏"‏ السلام ‏"‏، ومعناهما واحد‏.‏ واختار أبو عبيدة السلام‏.‏ وخالفه أهل النظر، فقالوا‏:‏ السلم هنا أشبه؛ لأنه بمعنى الانقياد والتسليم‏.‏ والمراد هنا‏:‏ لا تقولوا لمن ألقى بيده إليكم واستسلم لست مؤمناً، فالسلم والسلام كلاهما بمعنى الاستسلام، وقيل‏:‏ هما بمعنى‏:‏ الإسلام، أي‏:‏ لا تقولوا لمن ألقى إليكم الإسلام، أي‏:‏ كلمته، وهي‏:‏ الشهادة لست مؤمناً‏.‏ وقيل‏:‏ هما بمعنى التسليم الذي هو تحية أهل الإسلام، أي‏:‏ لا تقولوا لمن ألقى إليكم التسليم، فقال السلام عليكم‏:‏ لست مؤمناً‏.‏ والمراد‏:‏ نهى المسلمين عن أن يهملوا ما جاء به الكافر مما يستدل به على إسلامه، ويقولوا إنه إنما جاء بذلك تعوذاً، وتقية‏.‏ وقرأ أبو جعفر‏:‏ ‏{‏لَسْتَ مُؤْمِناً‏}‏ من أمنته‏:‏ إذا أجرته فهو مؤمن‏.‏

وقد استدلّ بهذه الآية على أن من قتل كافراً بعد أن قال لا إله إلا الله قتل به؛ لأنه قد عصم بهذه الكلمة دمه وماله وأهله، وإنما سقط القتل عمن وقع منه ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم تأوّلوا وظنوا أن من قالها خوفاً من السلاح لا يكون مسلماً؛ ولا يصير بها دمه معصوماً، وأنه لا بد من أن يقول هذه الكلمة، وهو مطمئن غير خائف، وفي حكم التكلم بكلمة الإسلام إظهار الانقياد بأن يقول أنا مسلم، أو أنا على دينكم، لما عرفت من أن معنى الآية الاستسلام والانقياد، وهو يحصل بكل ما يشعر بالإسلام من قول أو فعل، ومن جملة ذلك كلمة الشهادة وكلمة التسليم، فالقولان الآخران في معنى الآية داخلان تحت القول الأوّل‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياة الدنيا‏}‏ الجملة في محل نصب على الحال، أي‏:‏ لا تقولوا تلك المقالة طالبين الغنيمة، على أن يكون النهي راجعاً إلى القيد والمقيد لا إلى القيد فقط، وسمي متاع الدنيا عرضاً؛ لأنه عارض زائل غير ثابت‏.‏

قال أبو عبيدة‏:‏ يقال جميع متاع الدنيا عرض بفتح الراء‏.‏ وأما العرض بسكون الراء، فهو ما سوى الدنانير والدراهم، فكل عرض بالسكون عرض بالفتح، وليس كل عرض بالفتح عرضاً بالسكون‏.‏ وفي كتاب العين‏:‏ العرض ما نيل من الدنيا، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 67‏]‏ وجمعه عروض‏.‏ وفي المجمل لابن فارس‏:‏ والعرض ما يعترض للإنسان من مرض ونحوه‏.‏ وعرض الدنيا ما كان فيها من مال قلّ أو أكثر، والعرض من الأثاث ما كان غير نقد‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ‏}‏ هو تعليل للنهي، أي‏:‏ عند الله مما هو حلال لكم من دون ارتكاب محظور مغانم كثيرة تغتنمونها، وتستغنون بها عن قتل من قد استسلم وانقاد، واغتنام ماله ‏{‏كذلك كُنتُمْ مّن قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ كنتم كفاراً، فحقنت دماؤكم لما تكلمتم بكلمة الشهادة، أو كذلك كنتم من قبل، تخفون إيمانكم عن قومكم خوفاً على أنفسكم حتى من الله عليكم بإعزاز دينه، فأظهرتم الإيمان وأعلنتم به، وكرّر الأمر بالتبين للتأكيد عليهم لكونه واجباً لا فسحة فيه ولا رخصة‏.‏

وقد أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال‏:‏ لحق ناس من المسلمين رجلاً معه غنيمة له، فقال السلام عليكم، فقتلوه وأخذوا غنيمته، فنزلت‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُواْ‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وعبد بن حميد، والترمذي وحسنه، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال‏:‏ مرّ رجل من بني سليم بنفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسوق غنماً له، فسلم عليهم، فقالوا ما سلم علينا إلا ليتعوّذ منا، فعدوا عليه، فقتلوه، وأتوا بغنمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ الله‏}‏‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو نعيم، والبيهقي، عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي قال‏:‏ بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إضم، فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحرث بن ربعي، ومحلم بن جثامة بن قيس الليثي، فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم مرّ بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود له معه متيع، ووطب من لبن، فلما مرّ بنا سلم علينا بتحية الإسلام، فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلم بن جثامة لشيء كان بينه وبينه فقتله، وأخذ بعيره ومتيعه، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبرناه الخبر نزل فينا القرآن‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُواْ‏}‏ الآية‏.‏ وفي لفظ عند ابن إسحاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من حديث ‏[‏ابن‏]‏ أبي حدرد هذا، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمحلم‏:‏

«أقتلته بعد ما قال آمنت بالله‏؟‏» فنزل القرآن‏.‏

وأخرج ابن جرير، من حديث ابن عمر أن محلماً جلس بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليستغفر له، فقال‏:‏ لاغفر الله لك، فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه، فما مضت به ساعة حتى مات ودفنوه، فلفظته الأرض، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكروا ذلك له، فقال‏:‏ إن الأرض تقبل من هو شرّ من صاحبكم، ولكنّ الله أراد أن يعظكم، ثم طرحوه في جبل، وألقوا عليه الحجارة، فنزلت‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج البزار، والدارقطني في الإفراد، والطبراني، والضياء في المختارة، عن ابن عباس أن سبب نزول الآية‏:‏ أن المقداد بن الأسود قتل رجلاً بعد ما قال لا إله إلا الله‏.‏ وفي سبب النزول روايات كثيرة، وهذا الذي ذكرناه أحسنها‏.‏

وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏كذلك كُنتُمْ مّن قَبْلُ‏}‏ قال‏:‏ تستخفون بإيمانكم، كما استخفى هذا الراعي بإيمانه، يعني‏:‏ الذين قتلوه بعد أن ألقى إليهم السلام، وفي لفظ «تكتمون إيمانكم من المشركين» ‏{‏فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ‏}‏ فأظهر الإسلام فأعلنتم إيمانكم ‏{‏فَتَبَيَّنُواْ‏}‏ قال‏:‏ وعيد من الله ثان‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏كذلك كُنتُمْ مّن قَبْلُ‏}‏ قال‏:‏ كنتم كفاراً حتى منّ الله عليكم بالإسلام، وهداكم له‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏95- 96‏]‏

‏{‏لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏95‏)‏ دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏96‏)‏‏}‏

التفاوت بين درجات من قعد عن الجهاد من غير عذر، ودرجات من جاهد في سبيل الله بماله ونفسه، وإن كان معلوماً، لكن أراد سبحانه بهذا الإخبار تنشيط المجاهدين ليرغبوا، وتبكيت القاعدين ليأنفوا‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏غَيْرُ أُوْلِى الضرر‏}‏ قرأ أهل الكوفة، وأبو عمرو بالرفع على أنه وصف للقاعدين، كما قال الأخفش؛ لأنهم لا يقصد بهم قوم بأعيانهم، فصاروا كالنكرة، فجاز وصفهم بغير‏.‏ وقرأ أبو حيوة بكسر الراء على أنه وصف للمؤمنين‏.‏ وقرأ أهل الحرمين بفتح الراء على الاستثناء من القاعدين أو من المؤمنين، أي‏:‏ إلا أولى الضرر، فإنهم يستوون مع المجاهدين‏.‏ ويجوز أن يكون منتصباً على الحال من القاعدين، أي‏:‏ لا يستوي القاعدون الأصحاء في حال صحتهم، وجازت الحال منهم؛ لأن لفظهم لفظ المعرفة‏.‏ قال العلماء‏:‏ أهل الضرر هم أهل الأعذار؛ لأنها أضرّت بهم حتى منعتهم عن الجهاد، وظاهر النظم القرآني أن صاحب العذر يعطى مثل أجر المجاهد، وقيل‏:‏ يعطى أجره من غير تضعيف، فيفضله المجاهد بالتضعيف لأجل المباشرة‏.‏ قال القرطبي‏:‏ والأوّل أصحّ إن شاء الله للحديث الصحيح في ذلك‏:‏ «إن بالمدينة رجالاً ما قطعتم، وادياً، ولا سرتم مسيراً إلا كانوا معكم أولئك قوم حبسهم العذر» قال‏:‏ وفي هذا المعنى ما ورد في الخبر‏:‏ «إذا مرض العبد قال الله تعالى‏:‏ اكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة إلى أن يبرأ، أو أقبضه إليّ» قوله‏:‏ ‏{‏فَضَّلَ الله المجاهدين بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ عَلَى القاعدين دَرَجَةً‏}‏ هذا بيان لما بين الفريقين من التفاضل المفهوم من ذكر عدم الاستواء إجمالاً، والمراد هنا‏:‏ غير أولى الضرر حملاً للمطلق على المقيد، وقال هنا‏:‏ ‏{‏دَرَجَةً‏}‏، وقال فيما بعد‏:‏ ‏{‏درجات‏}‏ فقال قوم‏:‏ التفضيل بالدرجة ثم بالدرجات، إنما هو مبالغة وبيان تأكيد‏.‏ وقال آخرون‏:‏ فضل الله المجاهدين على القاعدين من أولى الضرر بدرجة واحدة، وفضل الله المجاهدين على القاعدين من غير أولى الضرر بدرجات، قاله ابن جريج، والسدّي، وغيرهما‏.‏ وقيل‏:‏ إن معنى درجة علوّاً، أي‏:‏ أعلى ذكرهم، ورفعهم بالثناء والمدح، ودرجة منتصبة على التمييز، أو المصدرية لوقوعها موقع المرة من التفضيل، أي‏:‏ فضل الله تفضيلة، أو على نزع الخافض، أو على الحالية من المجاهدين أي‏:‏ ذوي درجة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَكُلاًّ‏}‏ مفعول لقوله‏:‏ ‏{‏وَعَدَ الله‏}‏ قدّم عليه لإفادته القصر، أي‏:‏ كل واحد من المجاهدين والقاعدين، وعده الله الحسنى، أي‏:‏ المثوبة، وهي‏:‏ الجنة‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏أَجْراً‏}‏ هو‏:‏ منتصب على التمييز‏.‏ وقيل‏:‏ على المصدرية، لأن فضل بمعنى آجر، فالتقدير آجرهم أجراً‏.‏ وقيل‏:‏ مفعول ثان لفضل لتضمنه معنى الإعطاء‏.‏ وقيل‏:‏ منصوب بنزع الخافض‏.‏ وقيل‏:‏ على الحال من درجات مقدّم عليها، وأما انتصاب درجات ومغفرة ورحمة‏:‏ فهي بدل من أجراً‏.‏

وقيل‏:‏ إن مغفرة ورحمة ناصبهما أفعال مقدّرة، أي‏:‏ غفر لهم مغفرة ورحمهم رحمة‏.‏

وقد أخرج البخاري، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وغيرهم عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه‏:‏ «لا يستوي القاعدون من المؤمنين، والمجاهدون في سبيل الله» فجاء ابن أم مكتوم، وهو يمليها عليّ، فقال‏:‏ يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت، وكان أعمى، فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وفخذه على فخذي‏:‏ ‏{‏غَيْرُ أُوْلِى الضرر‏}‏‏.‏ وقد أخرج هذا المعنى عبد بن حميد، والترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم من حديث البراء‏.‏ وأخرجه أيضاً سعيد ابن منصور، وأحمد، وأبو داود، وابن المنذر، والطبراني، والحاكم وصححه، من حديث خارجة بن زيد ابن ثابت عن أبيه‏.‏ وأخرج الترمذي وحسنه، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال‏:‏ ‏{‏لاَّ يَسْتَوِى القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِى الضرر‏}‏ عن بدر، والخارجون إلى بدر‏.‏ وأخرجه عنه أيضاً عبد الرزاق، وعبد بن حميد، والبخاري، وابن جرير، وابن المنذر‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، والطبراني، والبيهقي عنه قال‏:‏ نزلت في قوم كانت تشغلهم أمراض، وأوجاع، فأنزل الله عذرهم من السماء‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، عن أنس بن مالك قال‏:‏ نزلت هذه الآية في ابن أم مكتوم، ولقد رأيته في بعض مشاهد المسلمين معه اللواء‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن جريج في قوله‏:‏ ‏{‏فَضَّلَ الله المجاهدين بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ عَلَى القاعدين دَرَجَةً‏}‏ قال‏:‏ على أهل الضرر‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى‏}‏ قال‏:‏ الجنة‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن ابن جريج قال‏:‏ كان يقال الإسلام درجة، والهجرة درجة في الإسلام، والجهاد في الهجرة درجة، والقتل في الجهاد درجة‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن محيريز في قوله‏:‏ ‏{‏درجات‏}‏ قال‏:‏ الدرجات سبعون درجة ما بين الدرجتين عدو الفرس الجواد المضمر سبعين سنة‏.‏ وأخرج نحوه عبد الرزاق في المصنف، عن أبي مجلز‏.‏ وأخرج البخاري، والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن في الجنة مائة درجة أعدّها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين، كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله، فسلوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏97- 100‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ‏(‏97‏)‏ إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ‏(‏98‏)‏ فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ‏(‏99‏)‏ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏100‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏توفاهم‏}‏ يحتمل أن يكون فعلاً ماضياً وحذفت منه علامة التأنيث؛ لأن تأنيث الملائكة غير حقيقي، ويحتمل أن يكون مستقبلاً، والأصل تتوفاهم، فحذفت إحدى التاءين‏.‏ وحكى ابن فورك، عن الحسن أن المعنى تحشرهم إلى النار‏.‏ وقيل تقبض أرواحهم، وهو الأظهر‏.‏ والمراد بالملائكة‏:‏ ملائكة الموت لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ يتوفاكم مَّلَكُ الموت الذى وُكّلَ بِكُمْ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ‏}‏ حال، أي‏:‏ في حال ظلمهم أنفسهم، وقول الملائكة‏:‏ ‏{‏فِيمَ كُنتُمْ‏}‏ سؤال توبيخ، أي‏:‏ في أي شيء كنتم من أمور دينكم‏؟‏ وقيل المعنى‏:‏ أكنتم في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أم كنتم مشركين‏؟‏ وقيل‏:‏ إن معنى السؤال التقريع لهم بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين‏.‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الأرض‏}‏ يعني‏:‏ مكة، لأن سبب النزول من أسلم بها ولم يهاجر، كما سيأتي، ثم أوقفتهم الملائكة على دينهم، وألزمتهم الحجة، وقطعت معذرتهم، فقالوا‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله واسعة فتهاجروا فِيهَا‏}‏ قيل‏:‏ المراد بهذه الأرض‏:‏ المدينة، والأولى العموم اعتباراً بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما هو الحق، فيراد بالأرض كل بقعة من بقاع الأرض تصلح للهجرة إليها، ويراد بالأرض الأولى كل أرض ينبغي الهجرة منها‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ‏}‏ هذه الجملة خبر لأولئك، والجملة خبر إن في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين توفاهم الملئكة‏}‏ ودخول الفاء لتضمن اسم إن معنى الشرط‏:‏ ‏{‏وَسَاءتْ‏}‏ أي‏:‏ جهنم ‏{‏مَصِيراً‏}‏ أي‏:‏ مكاناً يصيرون إليه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ المستضعفين‏}‏ هو استثناء من الضمير في مأواهم، وقيل‏:‏ استثناء منقطع لعدم دخول المستضعفين في الموصول وضميره‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مِنَ الرجال والنساء والولدان‏}‏ متعلق بمحذوف، أي‏:‏ كائنين منهم، والمراد بالمستضعفين من الرجال الزمني ونحوهم، والولدان كعياش بن أبي ربيعة، وسلمة بن هشام، وإنما ذكر الولدان مع عدم التكليف لهم لقصد المبالغة في أمر الهجرة، وإيهام أنها تجب لو استطاعها غير المكلف، فكيف من كان مكلفاً، وقيل‏:‏ أراد بالولدان المراهقين والمماليك‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً‏}‏ صفة للمستضعفين، أو للرجال والنساء، والولدان، أوحال من الضمير في المستضعفين‏.‏ وقيل‏:‏ الحيلة لفظ عام لأنواع أسباب التخلص، أي‏:‏ لا يجدون حيلة، ولا طريقاً إلى ذلك، وقيل‏:‏ السبيل‏:‏ سبيل المدينة‏:‏ ‏{‏فَأُوْلَئِكَ‏}‏ إشارة إلى المستضعفين الموصوفين بما ذكر ‏{‏عَسَى الله أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ‏}‏ وجيء بكلمة الإطماع لتأكيد أمر الهجرة، حتى يظن أن تركها ممن لا تجب عليه يكون ذنباً يجب طلب العفو عنه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى الأرض مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً‏}‏ هذه الجملة متضمنة للترغيب في الهجرة، والتنشيط إليها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فِى سَبِيلِ الله‏}‏ فيه دليل على أن الهجرة لا بدّ أن تكون بقصد صحيح، ونية خالصة غير مشوبة بشيء من أمور الدنيا، ومنه الحديث الصحيح‏:‏

«فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه»

وقد اختلف في معنى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَجِدْ فِى الأرض مُرَاغَماً‏}‏ فقال ابن عباس، وجماعة من التابعين، ومن بعدهم‏:‏ المراغم المتحوّل والمذهب‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ المراغم المتزحزح‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ المراغم المهاجر، وبه قال أبو عبيدة‏.‏ قال النحاس‏:‏ فهذه الأقوال متفقة المعاني، فالمراغم‏:‏ المذهب والمتحول، وهو الموضع الذي يراغم فيه، وهو مشتق من الرغام، وهو‏:‏ التراب، ورغم أنف فلان، أي‏:‏ لصق بالتراب، وراغمت فلاناً‏:‏ هجرته وعاديته، ولم أبال أن رغم أنفه‏.‏ وقيل‏:‏ إنما سمي مهاجراً، لأن الرجل كان إذا أسلم عادى قومه وهجرهم، فسمي خروجه مراغماً، وسمي مسيره إلى النبي صلى الله عليه وسلم هجرة‏.‏ والحاصل في معنى الآية أن المهاجر يجد في الأرض مكاناً يسكن فيه على رغم أنف قومه الذين هاجرهم، أي‏:‏ على ذلهم وهوانهم‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وسِعَةً‏}‏ أي‏:‏ في البلاد‏.‏ وقيل‏:‏ في الرزق، ولا مانع من حمل السعة على ما هو أعمّ من ذلك‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مهاجرا إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله‏}‏ قرئ «يدركه» بالجزم على أنه معطوف على فعل الشرط، وبالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وبالنصب على إضمار أن‏.‏ والمعنى أن من أدركه الموت قبل أن يصل إلى مطلوبه، وهو المكان الذي قصد الهجرة إليه أو الأمر الذي قصد الهجرة له‏:‏ ‏{‏فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله‏}‏ أي‏:‏ ثبت ذلك عنده ثبوتاً لا يتخلف ‏{‏وَكَانَ الله غَفُوراً‏}‏ أي‏:‏ كثير المغفرة ‏{‏رَّحِيماً‏}‏ أي‏:‏ كثير الرحمة‏.‏ وقد استدل بهذه الآية على أن الهجرة واجبة على كل من كان بدار الشرك، أو بدار يعمل فيها بمعاصي الله جهاراً، إذا كان قادراً على الهجرة، ولم يكن من المستضعفين، لما في هذه الآية الكريمة من العموم، وإن كان السبب خاصاً، كما تقدّم‏.‏ وظاهرها عدم الفرق بين مكان، ومكان وزمان وزمان‏.‏ وقد ورد في الهجرة أحاديث، وورد ما يدلّ على أنه لا هجرة بعد الفتح‏.‏ وقد أوضحنا ما هو الحقّ في شرحنا على المنتقى، فليرجع إليه‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس قال‏:‏ كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر، فأصيب بعضهم، وقتل البعض، فقال المسلمون‏:‏ قد كان أصحابنا هؤلاء مسلمين، وأكرهوا فاستغفروا لهم، فنزلت بهم هذه الآية‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين توفاهم الملئكة ظالمى أَنفُسِهِمْ‏}‏ قال‏:‏ فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الآية، وأنه لا عذر لهم، فخرجوا فلحقهم المشركون، فأعطوهم الفتنة، فنزلت فيهم هذه الآية‏:‏

‏{‏وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ ءامَنَّا بالله فَإِذَا أُوذِىَ فِى الله‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 10‏]‏ إلى آخر الآية فكتب المسلمون إليهم بذلك، فحزنوا، وأيسوا من كل خير، فنزلت فيهم‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجروا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جاهدوا وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 110‏]‏ فكتبوا إليهم بذلك أن الله قد جعل لكم مخرجاً فاخرجوا، فخرجوا، فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا، وقتل من قتل‏.‏ وقد أخرجه البخاري وغيره عنه مقتصراً على أوله‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن عكرمة في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين توفاهم الملئكة‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَسَاءتْ مَصِيراً‏}‏ قال‏:‏ نزلت في قيس بن الفاكه بن المغيرة، والحارث بن ربيعة بن الأسود، وقيس بن الوليد بن المغيرة، وأبي العاص بن منبه بن الحجاج، وعلي بن أمية بن خلف، قال‏:‏ لما خرج المشركون من قريش وأتباعهم لمنع أبي سفيان بن حرب وعير قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأن يطلبوا ما نيل منهم يوم نخلة، خرجوا معهم بشباب كارهين كانوا قد أسلموا، واجتمعوا ببدر على غير موعد، فقتلوا ببدر كفاراً ورجعوا عن الإسلام، وهم هؤلاء الذين سميناهم‏.‏ وأخرج نحوه عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن إسحاق‏.‏ وقد روي نحو هذا من طرق‏.‏ وقد أخرج البخاري، وغيره، عن ابن عباس أنه تلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏إِلاَّ المستضعفين مِنَ الرجال والنساء والولدان‏}‏ فقال‏:‏ كنت أنا وأمي من المستضعفين أنا من الولدان، وأمي من النساء‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن ابن جريج في قوله‏:‏ ‏{‏لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً‏}‏ قال‏:‏ قوّة‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن عكرمة في قوله‏:‏ ‏{‏لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً‏}‏ قال‏:‏ نهوضاً إلى المدينة‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً‏}‏ قال‏:‏ طريقاً إلى المدينة‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً‏}‏ قال‏:‏ المراغم المتحوّل من أرض إلى أرض‏.‏ والسعة‏:‏ الرزق‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد‏:‏ ‏{‏مُرَاغَماً‏}‏ قال‏:‏ متزحزحاً عما يكره‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن عطاء في قوله‏:‏ ‏{‏وسِعَةً‏}‏ قال‏:‏ ورخاء‏.‏ وأخرج أيضاً عن مالك قال‏:‏ سعة البلاد‏.‏ وأخرج أبو يعلى، وابن أبي حاتم، والطبراني قال السيوطي‏:‏ بسند‏:‏ رجاله ثقات عن ابن عباس قال‏:‏ خرج ضمرة بن جندب من بيته مهاجراً، فقال لقومه احملوني، فأخرجوني من أرض الشرك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمات في الطريق قبل أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل الوحي‏:‏ ‏{‏وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مهاجرا إِلَى الله‏}‏ الآية‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من وجه آخر، عنه نحوه‏.‏

وأخرج ابن سعد، وأحمد، والحاكم وصححه، عن عبد الله بن عتيك قال‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «من خرج من بيته مجاهداً في سبيل الله، وأين المجاهدون في سبيل الله‏؟‏ فخرّ عن دابته فمات فقد وقع أجره على الله، أو لدغته دابة فمات فقد وقع أجره على الله، أو مات حتف أنفه، فقد وقع أجره على الله»، يعني بحتف أنفه على فراشه، والله إنها لكلمة ما سمعتها من أحد من العرب قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، «ومن قتل قعصاً، فقد استوجب الجنة» وأخرج أبو يعلى، والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من خرج حاجاً فمات كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة، ومن خرج معتمراً فمات كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة، ومن خرج غازياً في سبيل الله فمات كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة» قال ابن كثير‏:‏ وهذا حديث غريب من هذا الوجه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏101- 102‏]‏

‏{‏وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا ‏(‏101‏)‏ وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏102‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا ضَرَبْتُمْ‏}‏ قد تقدّم تفسير الضرب في الأرض قريباً‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ‏}‏ فيه دليل على أن القصر ليس بواجب، وإليه ذهب الجمهور‏.‏ وذهب الأقلون إلى أنه واجب، ومنهم عمر بن عبد العزيز والكوفيون، والقاضي إسماعيل، وحماد بن أبي سليمان، وهو مرويّ عن مالك‏.‏ واستدلوا بحديث عائشة الثابت في الصحيح‏:‏ «فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فزيدت في الحضر، وأقرّت في السفر» ولا يقدح في ذلك مخالفتها لما روت فالعمل على الرواية الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثله حديث يعلى بن أمية قال‏:‏ سألت عمر بن الخطاب قلت‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُواْ‏}‏ وقد أمن الناس، فقال لي عمر‏:‏ عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال‏:‏ «صدقة تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» أخرجه أحمد، ومسلم، وأهل السنن‏.‏ وظاهر قوله‏:‏ «فاقبلوا صدقته» أن القصر واجب‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُواْ‏}‏ ظاهر هذا الشرط أن القصر لا يجوز في السفر إلا مع خوف الفتنة من الكافرين لا مع الأمن ولكنه قد تقرّر بالسنة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قصر مع الأمن، كما عرفت‏.‏ فالقصر مع الخوف ثابت بالكتاب، والقصر مع الأمن ثابت بالنسة، ومفهوم الشرط لا يقوى على معارضته ما تواتر عنه صلى الله عليه وسلم من القصر مع الأمن‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن هذا الشرط خرّج مخرج الغالب؛ لأن الغالب على المسلمين إذ ذاك القصر للخوف في الأسفار، ولهذا قال يعلى بن أمية لعمر ما قال كما تقدّم‏.‏ وفي قراءة أبيّ‏:‏ «أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم الذين كفروا» بسقوط ‏{‏إِنْ خِفْتُمْ‏}‏ والمعنى على هذه القراءة كراهة أن يفتنكم الذين كفروا‏.‏ وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن هذه الآية إنما هي مبيحة للقصر في السفر للخائف من العدّو، فمن كان آمناً، فلا قصر له‏.‏ وذهب آخرون إلى أن قوله‏:‏ ‏{‏إِنْ خِفْتُمْ‏}‏ ليس متصلاً بما قبله، وأن الكلام تمّ عند قوله‏:‏ ‏{‏مِنَ الصلاة‏}‏ ثم افتتح فقال‏:‏ ‏{‏إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُواْ‏}‏ فأقم لهم يا محمد صلاة الخوف‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الكافرين كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً‏}‏ معترض، ذكر معنى هذا الجرجاني، والمهدوي، وغيرهما‏.‏ ورده القشيري، والقاضي أبو بكر بن العربي‏.‏ وقد حكى القرطبي، عن ابن عباس معنى ما ذكره الجرجاني ومن معه، ومما يرد هذا، ويدفعه الواو في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ‏}‏ وقد تكلف بعض المفسرين، فقال‏:‏ إن الواو زائدة، وإن الجواب للشرط المذكور، أعني قوله‏:‏ ‏{‏إِنْ خِفْتُمْ‏}‏ هو قوله‏:‏ ‏{‏فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ‏}‏ وذهب قوم إلى أن ذكر الخوف منسوخ بالسنة، وهي حديث عمر الذي قدّمنا ذكره، وما ورد في معناه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُواْ‏}‏ قال الفراء‏:‏ أهل الحجاز يقولون، فتنت الرجل، وربيعة، وقيس، وأسد، وجميع أهل نجد يقولون أفتنت الرجل، وفرق الخليل، وسيبويه بينهما، فقالا فتنته‏:‏ جعلت فيه فتنة مثل كحلته، وأفتنته‏:‏ جعلته مفتناً، وزعم الأصمعي أنه لا يعرف أفتنته‏.‏ والمراد بالفتنة‏:‏ القتال، والتعرّض بما يكره قوله‏:‏ ‏{‏عَدُوّا‏}‏ أي‏:‏ أعداء‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة‏}‏ هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن بعده من أهل الأمر حكمه، كما هو معروف في الأصول، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خُذْ مِنْ أموالهم صَدَقَةً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 103‏]‏ ونحوه، وإلى هذا ذهب جمهور العلماء، وشذ أبو يوسف، وإسماعيل بن علية، فقالا‏:‏ لا تصلى صلاة الخوف بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا الخطاب خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم، قالا‏:‏ ولا يلحق غيره به لماله صلى الله عليه وسلم من المزية العظمى، وهذا مدفوع، فقد أمرنا الله باتباع رسوله، والتأسي به، وقد قال صلى الله عليه وسلم «صلوا كما رأيتموني أصلي» والصحابة رضي الله عنهم أعرف بمعاني القرآن، وقد صلوها بعد موته في غير مرّة، كما ذلك معروف‏.‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏لَهُمُ الصلاة‏}‏ أردت الإقامة، كقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قَرَأْتَ القرءان * فاستعذ بالله‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 98‏]‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ مَّعَكَ‏}‏ يعني‏:‏ بعد أن تجعلهم طائفتين، طائفة تقف بإزاء العدّو، وطائفة تقوم منهم معك في الصلاة‏:‏ ‏{‏وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ الطائفة التي تصلي معه‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير راجع إلى الطائفة التي بإزاء العدّو، والأوّل أظهر؛ لأن الطائفة القائمة بإزاء العدّو لا بدّ أن تكون قائمة بأسلحتها، وإنما يحتاج إلى الأمر بذلك من كان في الصلاة؛ لأنه يظن أن ذلك ممنوع منه حال الصلاة، فأمره الله بأن يكون آخذاً لسلاحه أي غير واضع له‏.‏ وليس المراد‏:‏ الأخذ باليد، بل المراد‏:‏ أن يكونوا حاملين لسلاحهم؛ ليتناولوه من قرب إذا احتاجوا إليه، وليكون ذلك أقطع لرجاء عدّوهم من إمكان فرصته فيهم‏.‏ وقد قال بإرجاع الضمير من قوله‏:‏ ‏{‏وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ‏}‏ إلى الطائفة القائمة بإزاء العدّو ابن عباس قال‏:‏ لأن المصلية لا تحارب، وقال غيره‏:‏ إن الضمير راجع إلى المصلية، وجوّز الزجاج، والنحاس أن يكون ذلك أمراً للطائفتين جميعاً، لأنه أرهب للعدّو‏.‏ وقد أوجب أخذ السلاح في هذه الصلاة أهل الظاهر حملاً للأمر على الوجوب‏.‏ وذهب أبو حنيفة إلى أن المصلين لا يحملون السلاح، وأن ذلك يبطل الصلاة، وهو مدفوع بما في هذه الآية، وبما في الأحاديث الصحيحة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا سَجَدُواْ‏}‏ أي‏:‏ القائمون في الصلاة ‏{‏فَلْيَكُونُواْ‏}‏ أي‏:‏ الطائفة القائمة بإزاء العدّو ‏{‏مِن وَرَائِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ من وراء المصلين‏.‏ ويحتمل أن يكون المعنى‏:‏ فإذا سجد المصلون معه، أي‏:‏ أتموا الركعة تعبيراً بالسجود عن جميع الركعة، أو عن جميع الصلاة ‏{‏فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ فلينصرفوا بعد الفراغ إلى مقابلة العدوّ للحراسة ‏{‏وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أخرى‏}‏ وهي‏:‏ القائمة في مقابلة العدو التي لم تصلّ ‏{‏فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ‏}‏ على الصفة التي كانت عليها الطائفة الأولى ‏{‏وَلْيَأْخُذُواْ‏}‏ أي‏:‏ هذه الطائفة الأخرى ‏{‏حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ‏}‏ زيادة التوصية للطائفة الأخرى بأخذ الحذر مع أخذ السلاح‏.‏ قيل‏:‏ وجهه أن هذه المرة مظنة لوقوف الكفرة على كون الطائفة القائمة مع النبي صلى الله عليه وسلم في شغل شاغل، وأما في المرة الأولى، فربما يظنونهم قائمين للحرب، وقيل‏:‏ لأن العدوّ لا يؤخر قصده عن هذا الوقت، لأنه آخر الصلاة، والسلاح‏:‏ ما يدفع به المرء عن نفسه في الحرب، ولم يبين في الآية الكريمة كم تصلي كل طائفة من الطائفتين‏؟‏ وقد وردت صلاة الخوف في السنة المطهرة على أنحاء مختلفة، وصفات متعددة، وكلها صحيحة مجزئة من فعل واحدة منها، فقد فعل ما أمر به، ومن ذهب من العلماء إلى اختيار صفة دون غيرها، فقد أبعد عن الصواب، وقد أوضحنا هذا في شرحنا للمنتقى، وفي سائر مؤلفاتنا‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَدَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً واحدة‏}‏ هذه الجملة متضمنة للعلة التي لأجلها أمرهم الله بالحذر، وأخذ السلاح، أي‏:‏ ودّوا غفلتكم عن أخذ السلاح، وعن الحذر؛ ليصلوا إلى مقصودهم، وينالوا فرصتهم، فيشدّون عليكم شدّة واحدة‏.‏ والأمتعة‏:‏ ما يتمتع به في الحرب، ومنه الزاد والراحلة‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ‏}‏ رخص لهم سبحانه في وضع السلاح إذا نالهم أذى من المطر، وفي حال المرض؛ لأنه يصعب مع هذين الأمرين حمل السلاح، ثم أمرهم بأخذ الحذر لئلا يأتيهم العدّو على غرّة، وهم غافلون‏.‏

وقد أخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، عن أبي حنظلة قال‏:‏ سألت ابن عمر، عن صلاة السفر، فقال‏:‏ ركعتان قلت‏:‏ فأين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا‏}‏ ونحن آمنون‏؟‏ قال‏:‏ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والبيهقي، عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد أنه سأل ابن عمر‏:‏ أرأيت قصر الصلاة في السفر‏؟‏ إنا لا نجدها في كتاب الله، إنما نجد ذكر صلاة الخوف، فقال ابن عمر‏:‏ يا بن أخي إن الله أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئاً، فإنما نفعل، كما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل، وقصر الصلاة في السفر سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفي الصحيحين، وغيرهما عن حارثة بن وهب الخزاعي قال‏:‏ صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر بمنى أكثر ما كان الناس، وآمنه ركعتين‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، والترمذي وصححه، والنسائي، عن ابن عباس قال‏:‏ صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة، ونحن آمنون لا نخاف شيئاً ركعتين‏.‏

وأخرج ابن جرير، عن عليّ قال‏:‏ سأل قوم من التجار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا‏:‏ يا رسول الله إنا نضرب في الأرض، فكيف نصلي‏؟‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة‏}‏ ثم انقطع الوحي، فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فصلى الظهر، فقال المشركون‏:‏ قد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددّتم عليهم‏؟‏ فقال قائل منهم‏:‏ إن لهم أخرى مثلها في أثرها، فأنزل الله بين الصلاتين‏:‏ ‏{‏إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُواْ إِنَّ الكافرين كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله أَعَدَّ للكافرين عَذَاباً مُّهِيناً‏}‏ فنزلت صلاة الخوف‏.‏

وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وأحمد، وعبد بن حميد، وأبو داود، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والدارقطني، والحاكم وصححه، عن أبي عياش الزرقي قال‏:‏ كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان، فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد، وهم بيننا وبين القبلة فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الظهر، فقالوا‏:‏ قد كانوا على حال لو أصبنا غرّتهم، ثم قالوا‏:‏ تأتي عليهم الآن صلاة هي أحبّ إليهم من أبنائهم وأنفسهم، فنزل جبريل بهذه الآيات‏:‏ ‏{‏وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة‏}‏ ثم ذكر صفة الصلاة التي صلوها مع النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ والأحاديث في صفة صلاة الخوف كثيرة، وهي مستوفاة في مواطنها، فلا نطول بذكرها ها هنا‏.‏ وأخرج البخاري، وغيره، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى‏}‏ قال‏:‏ نزلت في عبد الرحمن بن عوف كان جريحاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏103- 104‏]‏

‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ‏(‏103‏)‏ وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏104‏)‏‏}‏

‏{‏قَضَيْتُمُ‏}‏ بمعنى فرغتم من صلاة الخوف، وهو أحد معاني القضاء، ومثله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُم مناسككم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 200‏]‏ ‏{‏فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِى الأرض‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 10‏]‏‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فاذكروا الله قياما وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ في جميع الأحوال حتى في حال القتال‏.‏ وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن هذا الذكر المأمور به، إنما هو أثر صلاة الخوف، أي‏:‏ إذا فرغتم من الصلاة، فاذكروا الله في هذه الأحوال؛ وقيل‏:‏ معنى قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة‏}‏ إذا صليتم فصلوا قياماً وقعوداً أو على جنوبكم حسبما يقتضيه الحال عند ملاحمة القتال، فهي مثل قوله‏:‏ ‏{‏فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 239‏]‏‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا اطمأننتم‏}‏ أي‏:‏ أمنتم، وسكنت قلوبكم، والطمأنينة‏:‏ سكون النفس من الخوف ‏{‏فأقيموا الصلاة‏}‏ أي‏:‏ فأتوا بالصلاة التي دخل وقتها على الصفة المشروعة من الأذكار والأركان، ولا تفعلوا ما أمكن، فإن ذلك إنما هو في حال الخوف‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى في الآية أنهم يقضون ما صلوه في حال المسايفة؛ لأنها حالة قلق وانزعاج وتقصير في الأذكار والأركان، وهو مرويّ عن الشافعي، والأوّل أرجح ‏{‏إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً‏}‏ أي‏:‏ محدوداً معيناً، يقال‏:‏ وقته، فهو موقوت، ووقته فهو موقت‏.‏ والمعنى‏:‏ إن الله افترض على عباده الصلوات، وكتبها عليهم في أوقاتها المحدودة لا يجوز لأحد أن يأتي بها في غير ذلك الوقت إلا لعذر شرعي من نوم، أو سهو، أو نحوهما‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَهِنُواْ فِى ابتغاء القوم‏}‏ أي‏:‏ لا تضعفوا في طلبهم، وأظهروا القوّة والجلد‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ‏}‏ تعليل للنهي المذكور قبله، أي‏:‏ ليس ما تجدونه من ألم الجراح ومزاولة القتال مختصاً بكم، بل هو أمر مشترك بينكم وبينهم، فليسوا بأولى منكم بالصبر على حر القتال، ومرارة الحرب، ومع ذلك فلكم عليهم مزية لا توجد فيهم، وهي‏:‏ أنكم ترجون من الله من الأجر، وعظيم الجزاء مالا يرجونه لكفرهم وجحودهم، فأنتم أحقّ بالصبر منهم، وأولى بعدم الضعف منهم، فإن أنفسكم قوية؛ لأنها ترى الموت مغنماً، وهم يرونه مغرماً‏.‏ ونظير هذه الآية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مّثْلُهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 140‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ إن الرجاء هنا بمعنى الخوف؛ لأن من رجا شيئاً فهو غير قاطع بحصوله، فلا يخلو من خوف ما يرجو‏.‏ وقال الفراء، والزجاج‏:‏ لا يطلق الرجاء بمعنى الخوف إلا مع النفي، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 13‏]‏ أي‏:‏ لا تخافون له عظمة‏.‏ وقرأ عبد الرحمن الأعرج‏:‏ «أن تَكُونُواْ» بفتح الهمزة، أي‏:‏ لأن تكونوا‏.‏ وقرأ منصور بن المعتمر «تيلمون» بكسر التاء ولا يجوز عند البصريين كسر التاء لثقله‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فاذكروا الله قياما وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِكُمْ‏}‏ قال‏:‏ بالليل والنهار، في البرّ والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسرّ والعلانية، وعلى كل حال‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود أنه بلغه أن قوماً يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، فقال‏:‏ إنما هذه إذا لم يستطع الرجل أن يصلي قائماً صلى قاعداً‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد‏:‏ ‏{‏فَإِذَا اطمأننتم‏}‏ قال‏:‏ إذا خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة‏:‏ ‏{‏فأقيموا الصلاة‏}‏ قال‏:‏ أتموها‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة نحوه‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن ابن جريج نحوه أيضاً‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً‏}‏ يعني‏:‏ مفروضاً‏.‏ وأخرج ابن جرير، عنه قال‏:‏ الموقوت الواجب‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عنه في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَهِنُواْ‏}‏ قال‏:‏ ولا تضعفوا‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه في قوله‏:‏ ‏{‏تَأْلَمُونَ‏}‏ قال‏:‏ توجعون‏:‏ ‏{‏وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لاَ يَرْجُونَ‏}‏ قال‏:‏ ترجون الخير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏105- 109‏]‏

‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ‏(‏105‏)‏ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏106‏)‏ وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ‏(‏107‏)‏ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ‏(‏108‏)‏ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ‏(‏109‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏بِمَا أَرَاكَ الله‏}‏ إما بوحي أو بما هو جار على سنن ما قد أوحي الله به‏.‏ وليس المراد هنا‏:‏ رؤية العين؛ لأن الحكم لا يرى، بل المراد بما عرّفه الله به وأرشده إليه‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَكُنْ لّلْخَائِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ لأجل الخائنين خصيماً، أي‏:‏ مخاصماً عنهم مجادلاً للمحقين بسببهم‏.‏ وفيه دليل على أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحد إلا بعد أن يعلم أنه محق‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏واستغفر الله‏}‏ أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالاستغفار‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ إن المعنى‏:‏ استغفر الله من ذنبك في خصامك للخائنين، وسيأتي بيان السبب الذي نزلت لأجله الآية، وبه يتضح المراد‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ واستغفر الله للمذنبين من أمتك، والمخاصمين بالباطل‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تجادل عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ لا تحاجج عن الذين يخونون أنفسهم، والمجادلة مأخوذة من الجدل، وهو‏:‏ القتل، وقيل‏:‏ مأخوذة من الجدالة، وهي‏:‏ وجه الأرض؛ لأن كل واحد من الخصمين يريد أن يلقي صاحبه عليها، وسمي ذلك خيانة لأنفسهم؛ لأن ضرر معصيتهم راجع إليهم‏.‏ والخوّان‏:‏ كثير الخيانة، والأثيم‏:‏ كثير الإثم، وعدم المحبة كناية عن البغض‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناس‏}‏ أي‏:‏ يستترون منهم كقوله‏:‏ ‏{‏ومن هو مستخف بالليل‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 10‏]‏ أي‏:‏ مستتر‏.‏ وقيل‏:‏ معناه‏:‏ يستخفون من الناس، ولا يستخفون من الله، أي‏:‏ لا يستترون منه أو لا يستحيون منه، والحال أنه معهم في جميع أحوالهم عالم بما هم فيه، فكيف يستخفون منه‏؟‏ ‏{‏إِذْ يُبَيّتُونَ‏}‏ أي‏:‏ يديرون الرأي بينهم، وسماه تبييتاً، لأن الغالب أن تكون إدارة الرأي بالليل‏:‏ ‏{‏مَا لاَ يرضى مِنَ القول‏}‏ أي‏:‏ من الرأي الذي أداروه بينهم، وسماه قولاً؛ لأنه لا يحصل إلا بعد المداولة بينهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏ها أَنتُمْ هؤلاء‏}‏ يعني‏:‏ القوم الذين جادلوا عن صاحبهم السارق، كما سيأتي، والجملة مبتدأ وخبر‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ‏{‏أُوْلاء‏}‏ بمعنى الذين و‏{‏جادلتم‏}‏ بمعنى حاججتم ‏{‏فِى الحياة الدنيا فَمَن يجادل الله عنهم يوم القيامة‏}‏ الاستفهام للإنكار والتوبيخ، أي‏:‏ فمن يخاصم ويجادل الله عنهم يوم القيامة عند تعذيبهم بذنوبهم‏؟‏ ‏{‏أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً‏}‏ أي‏:‏ مجادلاً ومخاصماً، والوكيل في الأصل‏:‏ القائم بتدبير الأمور‏.‏ والمعنى‏:‏ من ذاك يقوم بأمرهم إذا أخذهم الله بعذابه‏.‏

وقد أخرج الترمذي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، عن قتادة بن النعمان، قال‏:‏ كان أهل بيت منا يقال لهم‏:‏ بنو أبيرق بشر، وبشير، ومبشر، وكان بشر رجلاً منافقاً يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ينحله بعض العرب، ثم يقول‏:‏ قال فلان كذا وكذا‏.‏ قال فلان كذا وكذا؛ فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشعر قالوا‏:‏ والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث، فقال‏:‏

أو كلما قال الرجال قصيدة *** أضمِوُا فقالوا ابن الأبيرق قالها

قال‏:‏ وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير، وكان الرجل إذا كان له يسار، فقدمت ضافطة، أي‏:‏ حمولة من الشام من الدرمك ابتاع الرجل منها فخصّ بها نفسه، وأما العيال، فإنما طعامهم التمر والشعير، فقدمت ضافطة من الشام، فابتاع عمي رفاعة بن رافع جملاً من الدرمك، فجعله في مشربة، وفي المشربة سلاح له درعان، وسيفاهما وما يصلحهما، فعدى عليه من تحت الليل، فنقبت المشربة، وأخذ الطعام والسلاح، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة، فقال‏:‏ يا ابن أخي تعلم أن قد عدي علينا في ليلتنا هذه، فنقبت مشربتنا، فذهب بطعامنا وسلاحنا، قال‏:‏ فتحسسنا في الدار، وسألنا، فقيل لنا‏:‏ قد رأينا بني أبيرق استوقدوا ناراً في هذه الليلة، ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم، قال‏:‏ وكان بنو أبيرق قالوا، ونحن نسأل في الدار، والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل رجلاً مناله صلاح وإسلام، فلما سمع ذلك لبيد اخترط سيفه، ثم أتى بني أبيرق وقال‏:‏ أنا أسرق‏؟‏ فوالله ليخالطنكم هذا السيف، أو لتبينن هذه السرقة، قالوا‏:‏ إليك عنا أيها الرجل، فوالله ما أنت بصاحبها، فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها، فقال لي عمي‏:‏ يا ابن أخي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، قال قتادة‏:‏ فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت‏:‏ يا رسول الله إن أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيد، فنقبوا مشربة له، وأخذوا سلاحه وطعامه، فليردّوا علينا سلاحنا، وأما الطعام فلا حاجة لنا فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «سأنظر في ذلك»، فلما سمع ذلك بنو أبيرق أتوا رجلاً منهم يقال له أسير بن عروة، فكلموه في ذلك، واجتمع إليه ناس من أهل الدار، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا‏:‏ يا رسول الله إن قتادة بن النعمان وعمه عمدوا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت، قال قتادة‏:‏ فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته، فقال‏:‏ «عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير بينة ولا ثبت»، قال قتادة‏:‏ فرجعت، ولوددت أني خرجت من بعض مالي، ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأتاني عمي رفاعة فقال لي‏:‏ يا بن أخي ما صنعت‏؟‏ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ الله المستعان، فلم نلبث أن نزل القرآن‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَا أَرَاكَ الله وَلاَ تَكُنْ لّلْخَائِنِينَ خَصِيماً‏}‏ بني أبيرق ‏{‏واستغفر الله‏}‏ أي‏:‏ مما قلت لقتادة‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً وَلاَ تجادل عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ‏}‏ إلى قوله‏:‏

‏{‏ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَّحِيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 110‏]‏ أي‏:‏ لو استغفروا الله لغفر لهم ‏{‏وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 111‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَقَدِ احتمل بهتانا وَإِثْماً مُّبِيناً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 111‏]‏ قولهم للبيد‏:‏ ‏{‏وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 113‏]‏ يعني‏:‏ أسير بن عروة، فلما نزل القرآن أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح، فرده إلى رفاعة‏.‏

قال قتادة‏:‏ فلما أتيت عمي بالسلاح، وكان شيخاً قد عسا في الجاهلية، أي‏:‏ كبر، وكنت أرى إسلامه مدخولاً، فلما أتيته بالسلاح قال‏:‏ يا ابن أخي هو في سبيل الله، فعرفت أن إسلامه كان صحيحاً، فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين، فنزل على سلافة بنت سعد، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَمَن يُشَاقِقِ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين نُوَلّهِ مَا تولى‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 115‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ضلالا بَعِيداً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 115- 116‏]‏ فلما نزل على سلافة رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعر، فأخذت رحله فوضعته على رأسها، ثم خرجت فرمت به في الأبطح، ثم قالت‏:‏ أهديت لي شعر حسان ما كنت تأتيني بخير‏.‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث غريب لا نعلم أحداً أسنده غير محمد بن سلمة الحراني‏.‏ ورواه يونس ابن بكير، وغير واحد، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة مرسلاً لم يذكر فيه، عن أبيه، عن جدّه‏.‏ ورواه ابن أبي حاتم، عن هاشم بن القاسم الحراني، عن محمد بن سلمة به ببعضه‏.‏ ورواه ابن المنذر، في تفسيره قال‏:‏ حدثنا محمد بن إسماعيل‏:‏ يعني‏:‏ الصانع، حدّثنا أحمد بن أبي شعيب الحراني، حدثنا محمد بن سلمة، فذكره بطوله‏.‏ ورواه أبو الشيخ الأصبهاني في تفسيره، عن محمد بن العباس بن أيوب، والحسن بن يعقوب كلاهما، عن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني، عن محمد ابن سلمة به، ثم قال في آخره‏:‏ قال محمد بن سلمة‏:‏ سمع مني هذا الحديث يحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن أبي إسرائيل‏.‏ وقد رواه الحاكم في المستدرك عن أبي العباس الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار العطاردي، عن يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق بمعناه أثم منه، ثم قال‏:‏ هذا صحيح على شرط مسلم‏.‏ وقد أخرجه ابن سعد، عن محمود بن لبيد قال‏:‏ غدا بشير فذكره مختصراً، وقد رويت هذه القصة مختصرة، ومطوّلة عن جماعة من التابعين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏110- 113‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏110‏)‏ وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏111‏)‏ وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ‏(‏112‏)‏ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ‏(‏113‏)‏‏}‏

هذا من تمام القصّة السابقة، والمراد بالسوء‏:‏ القبيح الذي يسوء به‏:‏ ‏{‏أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ‏}‏ بفعل معصية من المعاصي، أو ذنب من الذنوب التي لا تتعدى إلى غيره‏:‏ ‏{‏ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله‏}‏ يطلب منه أن يغفر له ما قارفه من الذنب‏:‏ ‏{‏يَجِدِ الله غَفُوراً‏}‏ لذنبه‏:‏ ‏{‏رَّحِيماً‏}‏ به، وفيه ترغيب لمن وقع منه السرق من بني أبيرق أن يتوب إلى ا ويستغفره، وأنه غفور لمن يستغفره رحيم به‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ إن هذه الآية نزلت في شأن وحشي قاتل حمزة، أشرك بالله، وقتل حمزة، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال‏:‏ هل لي من توبة‏؟‏ فنزلت‏.‏ وعلى كل حال، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهي لكل عبد من عباد الله أذنب ذنباً، ثم استغفر الله سبحانه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً‏}‏ من الآثام بذنب يذنبه ‏{‏فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ‏}‏ أي عاقبته عائدة عليه، والكسب ما يجرّ به الإنسان إلى نفسه نفعاً أو يدفع به ضرراً، ولهذا لا يسمى فعل الربّ كسباً، قاله القرطبي‏:‏ ‏{‏وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً‏}‏ قيل‏:‏ هما بمعنى واحد كرر للتأكيد‏.‏ وقال الطبري‏:‏ إن الخطيئة تكون عن عمد، وعن غير عمد، والإثم لا يكون إلا عن عمد، وقيل‏:‏ الخطيئة‏:‏ الصغيرة، والإثم‏:‏ الكبيرة‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً‏}‏ توحيد الضمير لكون العطف بأو، أو لتغليب الإثم على الخطيئة، وقيل‏:‏ إنه يرجع إلى الكسب‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَقَدِ احتمل بهتانا وَإِثْماً مُّبِيناً‏}‏ لما كانت الذنوب لازمة لفاعلها كانت كالثقل الذي يحمل، ومثله‏:‏ ‏{‏وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 13‏]‏، والبهتان مأخوذ من البهت‏:‏ وهو الكذب على البريء بما ينبهت له، ويتحير منه، يقال بهته بهتاً، وبهتاناً‏:‏ إذا قال عليه ما لم يقل، ويقال بهت الرجل بالكسر‏:‏ إذا دهش وتحير، وبهت بالضم، ومنه‏:‏ ‏{‏فَبُهِتَ الذى كَفَرَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 258‏]‏، والإثم المبين‏:‏ الواضح‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ‏}‏ خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد بهذا الفضل، والرحمة لرسول الله أنه نبهه على الحق في قصة بني أبيرق‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بهما‏:‏ النبوّة والعصمة ‏{‏لَهَمَّتْ طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ من الجماعة الذين عضدوا بني أبيرق، كما تقدّم‏:‏ ‏{‏أَن يُضِلُّوكَ‏}‏ عن الحق‏:‏ ‏{‏وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ‏}‏ لأن وبال ذلك عائد عليهم ‏{‏وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَئ‏}‏ لأن الله سبحانه هو عاصمك من الناس؛ ولأنك عملت بالظاهر، ولا ضرر عليك في الحكم به قبل نزول الوحي، والجار والمجرور في محل نصب على المصدرية، أي‏:‏ وما يضرونك شيئاً من الضرر‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الكتاب‏}‏ قيل‏:‏ هذا ابتداء كلام، وقيل‏:‏ الواو للحال، أي‏:‏ وما يضرّونك من شيء حال إنزال الله عليك الكتاب، والحكمة، أو مع إنزال الله ذلك عليك‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ‏}‏ معطوف على أنزل، أي‏:‏ علمك بالوحي ما لم تكن تعلم من قبل‏:‏ ‏{‏وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً‏}‏ إذ لا فضل أعظم من النبوّة ونزول الوحي‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ‏}‏ الآية‏.‏ قال‏:‏ أخبر الله عباده بحلمه وعفوه وكرمه وسعة رحمته ومغفرته، فمن أذنب ذنباً صغيراً كان أو كبيراً، ثم استغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً، ولو كانت ذنوبه أعظم من السموات والأرض والجبال‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، عن ابن مسعود قال‏:‏ من قرأ هاتين الآيتين من سورة النساء، ثم استغفر الله غفر له‏:‏ ‏{‏وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَّحِيماً‏}‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاءوكَ فاستغفروا الله واستغفر لَهُمُ الرسول‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 64‏]‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ‏}‏ قال‏:‏ علمه الله بيان الدنيا، والآخرة بين حلاله وحرامه ليحتج بذلك على خلقه‏.‏ وأخرج أيضاً عن الضحاك قال‏:‏ علمه الخير والشر، وقد ورد في قبول الاستغفار، وأنه يمحو الذنب أحاديث كثيرة مدوّنة في كتب السنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏114- 115‏]‏

‏{‏لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏114‏)‏ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ‏(‏115‏)‏‏}‏

النجوى‏:‏ السرّ بين الاثنين أو الجماعة، تقول ناجيت فلاناً مناجاة ونجاء، وهم ينتجون ويتناجون، ونجوت فلاناً أنجوه نجوى، أي‏:‏ ناجيته، فنجوى مشتقة من نجوت الشيء أنجوه، أي‏:‏ خلصته وأفردته‏.‏ والنجوة من الأرض المرتفع لانفراده بارتفاعه عما حوله، فالنجوى‏:‏ المسارّة مصدر، وقد تسمى به الجماعة، كما يقال قوم عدل، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ هُمْ نجوى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 47‏]‏ فعلى الأوّل يكون الاستثناء منقطعاً‏.‏ أي‏:‏ لكن من أمر بصدقة، أو متصلاً على تقدير إلا نجوى من أمر بصدقة، وعلى الثاني يكون الاستثناء متصلاً في موضع خفض على البدل من كثير، أي‏:‏ لا خير في كثير إلا فيمن أمر بصدقة‏.‏ وقد قال جماعة من المفسرين‏:‏ إن النجوى كلام الجماعة المنفردة، أو الاثنين سواء كان ذلك سراً أو جهراً، وبه قال الزجاج‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏بِصَدَقَةٍ‏}‏ الظاهر أنها صدقة التطوّع، وقيل‏:‏ إنها صدقة الفرض‏.‏ والمعروف صدقة التطوّع، والأوّل أولى‏.‏ والمعروف لفظ عام يشمل جميع أنواع البرّ‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ المعروف هنا القرض‏.‏ والأوّل أولى، منه قول الحطيئة‏:‏

من يفعل الخير لا يعدم جوازيه *** لا يذهب العرف بين الله والناس

ومنه الحديث‏:‏ «كل معروف صدقة» «وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق»، وقيل‏:‏ المعروف إغاثة الملهوف‏.‏ والإصلاح بين الناس عامّ في الدماء والأعراض والأموال، وفي كل شيء يقع التداعي فيه‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَفْعَلْ ذلك‏}‏ إشارة إلى الأمور المذكورة، جعل مجرّد الأمر بها خيراً، ثم رغب في فعلها بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَفْعَلْ ذلك‏}‏ لأن فعلها أقرب إلى الله من مجرّد الأمر بها، إذ خيرية الأمر بها إنما هي لكونه وسيلة إلى فعلها‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏ابتغاء مرضات الله‏}‏ علة للفعل؛ لأن من فعلها لغير ذلك، فهو غير مستحق لهذا المدح والجزاء، بل قد يكون غير ناج من الوزر، والأعمال بالنيات‏.‏

‏{‏وَمَن يُشَاقِقِ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى‏}‏ المشاققة‏:‏ المعاداة والمخالفة‏.‏ وتبين الهدى ظهوره، بأن يعلم صحة الرسالة بالبراهين الدالة على ذلك، ثم يفعل المشاققة ‏{‏وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين‏}‏ أي‏:‏ غير طريقهم، وهو ما هم عليه من دين الإسلام والتمسك بأحكامه‏.‏ ‏{‏نُوَلّهِ مَا تولى‏}‏ أي‏:‏ نجعله والياً لما تولاه من الضلال ‏{‏وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ‏}‏ قرأ عاصم وحمزة، وأبو عمرو‏:‏ «نُوَلّهِ وَنُصْلِهِ» بسكون الهاء في الموضعين‏.‏ وقرأ الباقون بكسرهما، وهما لغتان، وقريء ونصله بفتح النون من صلاه، وقد تقدّم بيان ذلك‏.‏ وقد استدل جماعة من أهل العلم بهذه الآية على حجية الإجماع لقوله‏:‏ ‏{‏وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين‏}‏ ولا حجة في ذلك عندي؛ لأن المراد بغير سبيل المؤمنين هنا‏:‏ هو الخروج من دين الإسلام إلى غيره، كما يفيده اللفظ ويشهد به السبب، فلا تصدق على عالم من علماء هذه الملة الإسلامية اجتهد في بعض مسائل دين الإسلام، فأدّاه اجتهاده إلى مخالفة من بعصره من المجتهدين، فإنه إنما رام السلوك في سبيل المؤمنين، وهو الدين القويم والملة الحنيفية، ولم يتبع غير سبيلهم‏.‏

وقد أخرج عبد بن حميد، والترمذي، وابن ماجه، وغيرهم عن أمّ حبيبة قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا أمراً بمعروف، أو نهياً عن منكر، أو ذكراً لله عزّ وجلّ ‏"‏ قال سفيان الثوري هذا في كتاب الله‏:‏ ‏{‏لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ‏}‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 38‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏والعصر * إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر‏}‏ ‏[‏العصر‏:‏ 1- 3‏]‏‏.‏ وقد وردت أحاديث صحيحة في الصمت، والتحذير من آفات اللسان، والترغيب في حفظه، وفي الحثّ على الإصلاح بين الناس‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم، عن مقاتل بن حيان في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَفْعَلْ ذلك‏}‏ تصدق أو أقرض أو أصلح بين الناس‏.‏

وأخرج أبو نصر السجزي في الإبانة عن أنس قال‏:‏ «جاء أعرابيّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن الله أنزل عليّ القرآن يا أعرابيّ‏:‏ ‏{‏لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً‏}‏ يا أعرابيّ الأجر العظيم الجنة ‏"‏؛ قال الأعرابي‏:‏ الحمد لله الذي هدانا للإسلام‏.‏ وأخرج الترمذي، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا يجمع الله هذه الأمة على الضلالة أبداً، ويد الله على الجماعة، فمن شذّ شذّ في النار ‏"‏ وأخرجه الترمذي والبيهقي أيضاً عن ابن عباس مرفوعاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏116- 122‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ‏(‏116‏)‏ إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا ‏(‏117‏)‏ لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ‏(‏118‏)‏ وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ‏(‏119‏)‏ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ‏(‏120‏)‏ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا ‏(‏121‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ‏(‏122‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ‏}‏ قد تقدّم تفسير هذه الآية، وتكريرها بلفظها للتأكيد، وقيل‏:‏ كررت هنا لأجل قصة بني أبيرق، وقيل إنها نزلت هنا لسبب غير قصة بني أبيرق‏.‏ وهو ما رواه الثعلبي، والقرطبي في تفسيريهما عن الضحاك‏:‏ أن شيخاً من الأعراب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ يا رسول الله إني شيخ منهمك في الذنوب والخطايا إلا أني لم أشرك بالله شيئاً مذ عرفته، وآمنت به، ولم أتخذ من دونه، ولياً، ولم أوقع المعاصي جرأة على الله، ولا مكابرة له، وإني لنادم وتائب ومستغفر، فما حالي عند الله‏؟‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ‏}‏ الآية ‏{‏وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ ضَلَّ‏}‏ عن الحق ‏{‏ضلالا بَعِيداً‏}‏ لأن الشرك أعظم أنواع الضلال، وأبعدها من الصواب‏.‏

‏{‏إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إناثا‏}‏ أي‏:‏ ما يدعون من دون الله إلا أصناماً لها أسماء مؤنثة كاللات والعزى ومناة وقيل المراد بالإناث‏:‏ الموات التي لا روح لها كالخشبة، والحجر‏.‏ وقيل المراد بالإناث‏:‏ الملائكة لقولهم الملائكة بنات الله‏.‏ وقرئ «وثنا» بضم الواو والثاء جمع وثن، روى هذه القراءة ابن الأنباري عن عائشة‏.‏ وقرأ ابن عباس «إلا أثنا» جمع وثن أيضاً، وأصله ‏"‏ وثن ‏"‏، فأبدلت الواو همزة، وقرأ الحسن ‏"‏ إلا أنثا ‏"‏ بضم الهمزة والنون بعدها مثلثة، جمع أنيث كغدير وغدر‏.‏ وحكى الطبري أنه جمع إناث كثمار وثمر‏.‏ وحكى هذه القراءة أبو عمرو الداني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ وقرأ بها ابن عباس، والحسن، وأبو حيوة‏.‏ وعلى جميع هذه القراءات، فهذا الكلام خارج مخرج التوبيخ للمشركين، والإزراء عليهم، والتضعيف لعقولهم، لكونهم عبدوا من دون الله نوعاً ضعيفاً ‏{‏وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شيطانا مَّرِيداً‏}‏ أي‏:‏ وما يدعون من دون الله إلا شيطاناً مريداً، وهو إبليس لعنه الله، لأنهم إذا أطاعوه فيما سوّل لهم فقد عبدوه‏.‏ وقد تقدّم اشتقاق لفظ الشيطان‏.‏ والمريد‏:‏ المتمرّد العاتي، من مرد‏:‏ إذا عتا‏.‏ قال الأزهري‏:‏ المريد الخارج عن الطاعة‏.‏ وقد مرد الرجل مروداً‏:‏ إذا عتا، وخرج عن الطاعة فهو مارد ومريد ومتمرّد‏.‏ وقال ابن عرفة‏:‏ هو الذي ظهر شرّه، يقال شجرة مرداء‏:‏ إذا تساقط ورقها وظهرت عيدانها، ومنه قيل للرجل أمرد‏:‏ أي‏:‏ ظاهر مكان الشعر من عارضيه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لَّعَنَهُ الله‏}‏ أصل اللعن الطرد، والإبعاد‏.‏ وقد تقدّم وهو في العرف إبعاد مقترن بسخط‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالَ لاَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً‏}‏ معطوف على قوله‏:‏ ‏{‏لَّعْنَهُ الله‏}‏ والجملتان صفة لشيطان، أي‏:‏ شيطاناً مريداً جامعاً بين لعنة الله له وبين هذا القول الشنيع‏.‏

والنصيب المفروض‏:‏ هو المقطوع المقدّر، أي‏:‏ لأجعلنّ قطعة مقدّرة من عباد الله تحت غوايتي، وفي جانب إضلالي حتى أخرجهم من عبادة الله إلى الكفر به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلأَضِلَّنَّهُمْ‏}‏ اللام جواب قسم محذوف‏.‏ والإضلال‏:‏ الصرف عن طريق الهداية إلى طريق الغواية، وهكذا اللام في قوله‏:‏ ‏{‏وَلأَمَنّيَنَّهُمْ وَلأَمُرَنَّهُمْ‏}‏ والمراد بالأماني التي يمنيهم بها الشيطان‏:‏ هي الأماني الباطلة الناشئة عن تسويله ووسوسته‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ ءاذَانَ الأنعام‏}‏ أي‏:‏ ولآمرنهم بتبتك آذان الأنعام‏:‏ أي‏:‏ تقطيعها فليبتكنها بموجب أمري‏.‏ والبتك‏:‏ القطع، ومنه سيف باتك، يقال بتكه وبتكه مخففاً، ومشدّداً، ومنه قول زهير‏:‏

طارت وفي كفه من ريشها بتك *** أي‏:‏ قطع‏.‏ وقد فعل الكفار ذلك امتثالاً لأمر الشيطان واتباعاً لرسمه، فشقوا آذان البحائر والسوائب، كما ذلك معروف‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ الله‏}‏ أي‏:‏ ولآمرنهم بتغيير خلق الله، فليغيرنه بموجب أمري لهم‏.‏ واختلف العلماء في هذا التغيير ما هو‏؟‏ فقالت طائفة‏:‏ هو الخصاء وفقء الأعين، وقطع الآذان‏.‏ وقال آخرون‏:‏ إن المراد بهذا التغيير هو أن الله سبحانه خلق الشمس والقمر والأحجار، والنار، ونحوها من المخلوقات لما خلقها له، فغيرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة، وبه قال الزجاج وقيل المراد بهذا التغيير‏:‏ تغيير الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه الأمور حملاً شمولياً، أو بدلياً‏.‏

وقد رخص طائفة من العلماء في خصاء البهائم إذا قصد بذلك زيادة الانتفاع به لسمن أو غيره، وكره ذلك آخرون، وأما خصاء بني آدم فحرام، وقد كره قوم شراء الخصي‏.‏ قال القرطبي‏:‏ ولم يختلفوا أن خصاء بني آدم لا يحل ولا يجوز وأنه مثلة وتغيير لخلق الله، وكذلك قطع سائر أعضائهم في غير حدّ ولا قود، قاله أبو عمر بن عبد البر‏.‏

‏{‏وَمَن يَتَّخِذِ الشيطان وَلِيّاً مّن دُونِ الله‏}‏ باتباعه وامتثال ما يأمر به من دون اتباع لما أمر الله به، ولا امتثال له ‏{‏فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً‏}‏ أي‏:‏ واضحاً ظاهراً ‏{‏يَعِدُهُمْ‏}‏ المواعيد الباطلة ‏{‏وَيُمَنّيهِمْ‏}‏ الأماني العاطلة ‏{‏وَمَا يَعِدُهُمْ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً‏}‏ أي‏:‏ وما يعدهم الشيطان بما يوقعه في خواطرهم من الوساوس الفارغة ‏{‏إِلاَّ غُرُوراً‏}‏ يغرّهم به ويظهر لهم فيه النفع، وهو ضرر محض، وانتصاب ‏{‏غروراً‏}‏ على أنه نعت لمصدر محذوف، أي‏:‏ وعداً غروراً، أو على أنه مفعول ثان، أو مصدر على غير لفظه‏.‏ قال ابن عرفة‏:‏ الغرور ما رأيت له ظاهراً تحبه، وله باطن مكروه وهذه الجملة اعتراضية‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى أولياء الشيطان، وهذا مبتدأ، وخبره الجملة، وهي قوله‏:‏ ‏{‏مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ‏}‏‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏مَحِيصاً‏}‏ أي‏:‏ معدلاً، من حاص يحيص وقيل ملجأ، ومخلصاً؛ والمحيص اسم مكان، وقيل‏:‏ مصدر‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏والذين ءامَنُواْ‏}‏ الخ جعل هذا الوعد للذين آمنوا مقترناً بالوعيد المتقدّم للكافرين‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَعْدَ الله حَقّا‏}‏ قال في الكشاف مصدران‏:‏ الأوّل مؤكد لنفسه، والثاني مؤكد لغيره، ووجهه أن الأوّل مؤكد لمضمون الجملة الاسمية، ومضمونها وعد، والثاني مؤكد لغيره، أي‏:‏ حق ذلك حقاً‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً‏}‏ هذه الجملة مؤكدة لما قبلها، والقيل مصدر قال كالقول، أي‏:‏ لا أجد أصدق قولاً من الله عز وجل؛ وقيل‏:‏ إن قيلا اسم لا مصدر، وإنه منتصب على التمييز‏.‏

وقد أخرج الترمذي من حديث عليّ أنه قال‏:‏ ما في القرآن آية أحبّ إليّ من هذه الآية‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء‏}‏ قال الترمذي‏:‏ حسن غريب‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن أبي مالك في قوله‏:‏ ‏{‏إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إناثا‏}‏ قال‏:‏ اللات والعزة، ومناة كلها مؤنثة‏.‏ وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والضياء في المختارة عن أبيّ بن كعب في الآية قال مع كل صنم جنيه‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إناثا‏}‏ قال‏:‏ موتى‏.‏ وأخرج مثله عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الحسن‏.‏ وأخرج مثله أيضاً عبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر عن الحسن قال‏:‏ كان لكل حيّ من أحياء العرب صنم يعبدونها يسمونها أنثى بني فلان، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إناثا‏}‏‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن الضحاك قال المشركون‏:‏ إن الملائكة بنات الله، وإنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، قال‏:‏ اتخذوهنّ أرباباً، وصوروهنّ صور الجواري، فحلوا وقلدوا، وقالوا هؤلاء يشبهن بنات الله الذي نعبده‏:‏ يعنون الملائكة‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان في قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالَ لأُتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ‏}‏ الخ، قال‏:‏ هذا إبليس يقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن الربيع ابن أنس مثله‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏فَلَيُبَتّكُنَّ ءاذَانَ الأنعام‏}‏ قال التبتيك في البحيرة والسائبة يبتكون آذانها لطواغيتهم‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن أنس أنه كره الإخصاء، وقال فيه نزلت‏:‏ ‏{‏وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ الله‏}‏‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس مثله‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، والبيهقي، عن ابن عمر قال‏:‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خصاء البهائم والخيل‏.‏ وأخرج ابن المنذر، والبيهقي عن ابن عباس قال‏:‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صبر الروح، وإخصاء البهائم وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ الله‏}‏ قال‏:‏ دين الله‏.‏ وأخرج ابن جرير، عن الضحاك مثله‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر عن سعيد بن جبير مثله أيضاً‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الحسن قال‏:‏ الوشم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏123- 126‏]‏

‏{‏لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏123‏)‏ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ‏(‏124‏)‏ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ‏(‏125‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا ‏(‏126‏)‏‏}‏

قرأ أبو جعفر بتخفيف الياء من أماني في الموضعين، واسم ليس محذوف، أي‏:‏ ليس دخول الجنة، أو الفضل، أو القرب من الله بأمانيكم، ولا أمانيّ أهل الكتاب، كما يدل على ذلك سبب نزول الآية الآتي، وقيل‏:‏ ضمير يعود إلى وعد الله، وهو بعيد، ومن أمانيّ أهل الكتاب قولهم‏:‏ ‏{‏لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 111‏]‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 18‏]‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 80‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ‏}‏ قيل المراد بالسوء‏:‏ الشرك، وظاهر الآية أعمّ من ذلك، فكلّ من عمل سوءاً‏:‏ أي سوء كان فهو مجزي به من غيره فرق بين المسلم والكافر‏.‏ وفي هذه الجملة ما ترجف له القلوب من الوعيد الشديد، وقد كان لها في صدور المسلمين عند نزولها موقع عظيم كما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة، قال‏:‏ لما نزلت‏:‏ ‏{‏مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ‏}‏ بلغت من المسلمين مبلغاً شديداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «قاربوا وسدّدوا، في كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها، والشوكة يشاكها» قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَجِدْ لَهُ‏}‏ قرأه الجماعة بالجزم عطفاً على الجزاء‏.‏ وروى ابن بكار عن ابن عامر ‏{‏وَلاَ يَجِدْ‏}‏ بالرفع استئنافاً، أي ليس لمن يعمل السوء من دون الله ولياً يواليه ولا نصيراً ينصره‏.‏

‏{‏وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات‏}‏ أي‏:‏ بعضها حال كونه ‏{‏مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى‏}‏ وحال كونه مؤمناً، والحال الأولى لبيان من يعمل، والحال الأخرى لإفادة اشتراط الإيمان في كل عمل صالح ‏{‏فَأُوْلَئِكَ‏}‏ إشارة إلى العمل المتصف بالإيمان ‏{‏يَدْخُلُونَ الجنة‏}‏ قرأ أبو عمرو، وابن كثير‏:‏ «يَدْخُلُونَ» بضم حرف المضارعة على البناء للمجهول‏.‏ وقرأ الباقون بفتحها على البناء للمعلوم ‏{‏وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً‏}‏ أي‏:‏ لا ينقصون شيئاً حقيراً، وقد تقدّم تفسير النقير‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله‏}‏ أي‏:‏ أخلص نفسه له حال كونه محسناً، أي‏:‏ عاملاً للحسنات ‏{‏واتَّبَعَ مِلَّةَ إبراهيم‏}‏ أي‏:‏ دينه حال كون المتبع ‏{‏حَنِيفاً‏}‏ أي‏:‏ مائلاً عن الأديان الباطلة إلى دين الحق، وهو الإسلام‏:‏ ‏{‏واتخذ الله إبراهيم خَلِيلاً‏}‏ أي‏:‏ جعله صفوة له، وخصه بكراماته، قال ثعلب‏:‏ إنما سمي الخليل خليلاً؛ لأن محبته تتخلل القلب، فلا تدع فيه خليلاً إلا ملأته، وأنشد قول بشار‏:‏

قد تخللت مسلك الروح مني *** وبه سمي الخليل خليلاً

وخليل فعيل بمعنى فاعل كالعليم بمعنى العالم وقيل‏:‏ هو بمعنى المفعول كالحبيب بمعنى المحبوب‏.‏ وقد كان إبراهيم عليه السلام محبوباً لله ومحباً له‏.‏ وقيل‏:‏ الخليل من الاختصاص، فالله سبحانه اختص إبراهيم برسالته في ذلك الوقت واختاره لها، واختار هذا النحاس‏.‏

وقال الزجاج‏:‏ معنى الخليل الذي ليس في محبته خلل ‏{‏وَللَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض‏}‏ فيه إشارة إلى أنه سبحانه اتخذ إبراهيم خليلاً لطاعته لا لحاجته، ولا للتكثر به، والاعتضاد بمخاللته ‏{‏وَكَانَ الله بِكُلّ شَئ مُّحِيطاً‏}‏ هذه الجملة مقررة لمعنى الجملة التي قبلها، أي‏:‏ أحاط علمه بكل شيء‏:‏ ‏{‏لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 49‏]‏‏.‏

وقد أخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد قال‏:‏ قالت العرب‏:‏ لا نبعث، ولا نحاسب، وقالت اليهود، والنصارى‏:‏ ‏{‏لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 11‏]‏ وقالوا‏:‏ ‏{‏لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً‏}‏ ‏[‏البقرة؛ 80‏]‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏لَّيْسَ بأمانيكم وَلا أَمَانِىّ أَهْلِ الكتاب مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ‏}‏‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر عن مسروق قال‏:‏ احتج المسلمون، وأهل الكتاب، فقال المسلمون‏:‏ نحن أهدى منكم، وقال أهل الكتاب‏:‏ نحن أهدى منكم، فنزلت ففلج عليهم المسلمون بهذه الآية‏:‏ ‏{‏وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات مِن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مسروق قال‏:‏ تفاخر النصارى، وأهل الإسلام، فقال هؤلاء نحن أفضل منكم، وقال هؤلاء نحن أفضل منكم، فنزلت‏.‏ وقد ورد معنى هذه الروايات من طرق كثيرة مختصرة ومطوّلة‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، والترمذي، وابن المنذر، عن أبي بكر الصديق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له لما نزلت هذه الآية‏:‏ «أما أنت، وأصحابك يا أبا بكر، فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله ليس لكم ذنوب، وأما الآخرون، فيجمع لهم ذلك حتى يجزوا به يوم القيامة» وأخرج البخاري، ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة، وأبي سعيد أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «ما يصيب المؤمن من وصب، ولا نصب، ولا سقم، ولا حزن حتى الهمّ يهمه إلا كفر الله به من سيئاته» وقد ورد في هذا المعنى أحاديث كثيرة‏.‏

وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس أن ابن عمر لقيه، فسأل عن هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات‏}‏ قال‏:‏ الفرائض‏.‏ وأخرج الحاكم، وصححه عن جندب‏:‏ أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يتوفى‏:‏ «إن الله اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً» وأخرج الحاكم أيضاً وصححه، عن ابن عباس قال‏:‏ أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏127‏]‏

‏{‏وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا ‏(‏127‏)‏‏}‏

سبب نزول هذه الآية سؤال قوم من الصحابة عن أمر النساء، وأحكامهن في الميراث وغيره، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم‏:‏ ‏{‏الله يُفْتِيكُمْ‏}‏ أي‏:‏ يبين لكم حكم ما سألتم عنه، وهذه الآية رجوع إلى ما افتتحت به السورة من أمر النساء، وكان قد بقيت لهم أحكام لم يعرفوها، فسألوا، فقيل لهم‏:‏ ‏{‏الله يُفْتِيكُمْ‏}‏‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ‏}‏ معطوف على قوله‏:‏ ‏{‏الله يُفْتِيكُمْ‏}‏ والمعنى‏:‏ والقرآن الذي يتلى عليكم يفتيكم فيهن‏.‏ والمتلوّ في الكتاب في معنى اليتامى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى اليتامى‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 3‏]‏ ويجوز أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏وما يتلى‏}‏ معطوفاً على الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏يُفْتِيكُمْ‏}‏ الراجع إلى المبتدأ لوقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالمفعول والجار والمجرور، ويجوز أن يكون مبتدأ، و‏{‏في الكتاب‏}‏ خبره على أن المراد به‏:‏ اللوح المحفوظ، وقد قيل في إعرابه غير ما ذكرنا، ولم نذكره لضعفه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فِى يتامى النساء‏}‏ على الوجه الأوّل والثاني صلة لقوله‏:‏ ‏{‏يتلى‏}‏ وعلى الوجه الثالث بدل من قوله‏:‏ ‏{‏فِيهِنَّ‏}‏‏.‏ ‏{‏اللاتى لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ‏}‏ أي‏:‏ ما فرض لهنّ من الميراث وغيره ‏{‏وَتَرْغَبُونَ‏}‏ معطوف على قوله‏:‏ ‏{‏لاَ تُؤْتُونَهُنَّ‏}‏ عطف جملة مثبتة على جملة منفية‏.‏ وقيل‏:‏ حال من فاعل ‏{‏تُؤْتُونَهُنَّ‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَن تَنكِحُوهُنَّ‏}‏ يحتمل أن يكون التقدير في أن تنكحوهن، أي‏:‏ ترغبون في أن تنكحوهنّ لجمالهنّ، ويحتمل أن يكون التقدير، وترغبون عن أن تنكحوهنّ لعدم جمالهنّ‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏والمستضعفين مِنَ الولدان‏}‏ معطوف على يتامى النساء، أي‏:‏ وما يتلى عليكم في يتامى النساء، وفي المستضعفين من الولدان، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُوصِيكُمُ الله فِى أولادكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وقد كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء، ولا من كان مستضعفاً من الولدان، كما سلف، وإنما يورثون الرجال القائمين بالقتال وسائر الأمور‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط‏}‏ معطوف على قوله‏:‏ ‏{‏فِى يتامى النساء‏}‏ كالمستضعفين أي‏:‏ وما يتلى عليكم في يتامى النساء، وفي المستضعفين، وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط، أي‏:‏ العدل، ويجوز أن يكون في محل نصب، أي‏:‏ ويأمركم أن تقوموا ‏{‏وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ‏}‏ في حقوق المذكورين‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيماً‏}‏ يجازيكم بحسب فعلكم من خير وشر‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النساء‏}‏ الآية، قال‏:‏ كان أهل الجاهلية لا يورثون المولود حتى يكبر، ولا يورثون المرأة، فلما كان الإسلام قال‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النساء قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِى الكتاب‏}‏ في أوّل السورة في الفرائض‏.‏

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد في الآية قال‏:‏ كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء، ولا الصبيان شيئاً، كانوا يقولون لا يغزون، ولا يغنمون خيراً، ففرض الله لهنّ الميراث حقاً واجباً‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن سعيد بن جبير نحوه بأطول منه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن إبراهيم في الآية قال‏:‏ كانوا إذا كانت الجارية يتيمة دميمة لم يعطوها ميراثها، وحبسوها من التزويج حتى تموت فيرثونها، فأنزل الله هذا‏.‏ وأخرج البخاري، ومسلم وغيرهما عن عائشة في قوله‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النساء‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ‏}‏ قالت‏:‏ هو الرجل تكون عنده اليتيمة هو وليها ووارثها قد شركته في ماله حتى في العذق، فيرغب أن ينكحها ويكره أن يزوّجها رجلاً، فتشركه في ماله بما شركته فيعضلها، فنزلت هذه الآية‏.‏ وأخرج ابن المنذر من طريق ابن عون عن الحسن، وابن سيرين في هذه الآية قال أحدهما‏:‏ ترغبون فيهنّ، وقال الآخر‏:‏ ترغبون عنهن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏128- 130‏]‏

‏{‏وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏128‏)‏ وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏129‏)‏ وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا ‏(‏130‏)‏‏}‏

‏{‏امرأة‏}‏ مرفوعة بفعل مقدّر يفسره ما بعده، أي‏:‏ وإن خافت امرأة، وخافت بمعنى‏:‏ توقعت ما تخاف من زوجها، وقيل معناه‏:‏ تيقنت وهو خطأ‏.‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ ‏{‏وَإِنِ امرأة خافت مِن بَعْلِهَا‏}‏ دوام النشوز‏.‏ قال النحاس‏:‏ الفرق بين النشوز والإعراض‏:‏ أن النشوز التباعد، والإعراض أن لا يكلمها ولا يأنس بها، وظاهر الآية أنها تجوز المصالحة عند مخافة أيّ نشوز، أو أيّ إعراض، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب الذي سيأتي، وظاهرها أنه يجوز التصالح بأيّ نوع من أنواعه، إما بإسقاط النوبة، أو بعضها، أو بعض النفقة، أو بعض المهر‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏أن يصالحا‏}‏ هكذا قرأه الجمهور، وقرأ الكوفيون‏:‏ «أن يصلحا» وقراءة الجمهور أولى؛ لأن قاعدة العرب أن الفعل إذا كان بين اثنين فصاعداً قيل‏:‏ تصالح الرجلان، أو القوم، لا أصلح‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏صالحا‏}‏ منصوب على أنه اسم مصدر، أو على أنه مصدر محذوف الزوائد، أو منصوب بفعل محذوف، أي‏:‏ فيصلح حالهما صلحاً، وقيل‏:‏ هو منصوب على المفعولية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بَيْنَهُمَا‏}‏ ظرف للفعل، أو في محل نصب على الحال‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏والصلح خَيْرٌ‏}‏ لفظ عام يقتضي أن الصلح الذي تسكن إليه النفوس، ويزول به الخلاف خير على الإطلاق أو خير من الفرقة، أو من الخصومة، وهذه جملة اعتراضية‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح‏}‏ إخبار منه سبحانه بأن الشحّ في كل واحد منهما، بل في كل الأنفس الإنسانية كائن، وأنه جعل كأنه حاضر لها لا يغيب عنها بحال من الأحوال، وأن ذلك بحكم الجبلة والطبيعة، فالرجل يشحّ بما يلزمه للمرأة من حسن العشرة، وحسن النفقة ونحوها، والمرأة تشحّ على الرجل بحقوقها اللازمة للزوج، فلا تترك له شيئاً منها‏.‏ وشحّ الأنفس‏:‏ بخلها بما يلزمها، أو يحسن فعله بوجه من الوجوه، ومنه‏:‏ ‏{‏وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 9‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ‏}‏ أي‏:‏ تحسنوا عشرة النساء، وتتقوا ما لا يجوز من النشوز والإعراض ‏{‏فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً‏}‏ فيجازيكم يا معشر الأزواج بما تستحقونه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النساء‏}‏ أخبر سبحانه بنفي استطاعتهم للعدل بين النساء على الوجه الذي لا ميل فيه ألبتة لما جبلت عليه الطباع البشرية من ميل النفس إلى هذه دون هذه، وزيادة هذه في المحبة، ونقصان هذه، وذلك بحكم الخلقة بحيث لا يملكون قلوبهم، ولا يستطيعون توقيف أنفسهم على التسوية، ولهذا كان يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك ‏"‏ ولما كانوا لا يستطيعون ذلك، ولو حرصوا عليه، وبالغوا فيه نهاهم عزّ وجلّ عن أن يميلوا كل الميل؛ لأن ترك ذلك وتجنب الجور كل الجور في وسعهم، وداخل تحت طاقتهم، فلا يجوز لهم أن يميلوا عن إحداهنّ إلى الأخرى كل الميل حتى يذروا الأخرى كالمُعلقة التي ليست ذات زوج، ولا مطلقة تشبيهاً بالشيء الذي هو معلق غير مستقرّ على شيء، وفي قراءة أبيّ «فتذروها كالمسجونة» قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن تُصْلِحُواْ‏}‏ أي‏:‏ ما أفسدتم من الأمور التي تركتم ما يجب عليكم فيها من عشرة النساء، والعدل بينهنّ ‏{‏وَتَتَّقُواْ‏}‏ كل الميل الذي نهيتم عنه‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً‏}‏ لا يؤاخذكم بما فرط منكم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن يَتَفَرَّقَا‏}‏ أي‏:‏ لم يتصالحا بل فارق كل واحد منهما صاحبه‏:‏ ‏{‏يُغْنِ الله كُلاًّ‏}‏ منهما‏:‏ أي‏:‏ يجعله مستغنياً عن الآخر بأن يهيئ للرجل امرأة توافقه، وتقرّ بها عينه، وللمرأة رجلاً تغتبط بصحبته، ويرزقهما ‏{‏مّن سَعَتِهِ‏}‏ رزقاً يغنيهما به عن الحاجة‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الله واسعا حَكِيماً‏}‏ واسع الفضل صادرة أفعاله على جهة الإحكام والإتقان‏.‏

وقد أخرج الترمذي وحسنه، وابن المنذر، والطبراني، والبيهقي عن ابن عباس قال‏:‏ خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت‏:‏ يا رسول الله لا تطلقني، وأجعل يومي لعائشة، ففعل، ونزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَإِنِ امرأة خافت مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً‏}‏ الآية، قال ابن عباس‏:‏ فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز‏.‏ وأخرج أبو داود، والحاكم وصححه، والبيهقي عن عائشة أن سبب نزول الآية هو قصة سودة المذكورة‏.‏ وأخرج البخاري وغيره عنها في الآية قالت‏:‏ الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها، فتقول‏:‏ أجعلك من شأني في حلّ، فنزلت هذه الآية‏.‏ وأخرج الشافعي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، والبيهقي عن سعيد بن المسيب أن ابنة محمد بن سلمة كانت عند رافع بن خديج، فكره منها أمراً، إما كبراً، أو غيره، فأراد طلاقها، فقالت‏:‏ لا تطلقني واقسم لي ما بدا لك، فاصطلحا، وجرت السنة بذلك ونزل القرآن‏:‏ ‏{‏وَإِنِ امرأة خافت مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً‏}‏ الآية‏.‏ وأخرج أبو داود الطيالسي، وابن أبي شيبة، وابن راهويه، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي عن عليّ أنه سئل عن هذه الآية، فقال‏:‏ هو رجل عنده امرأتان، فتكون إحداهما قد عجزت، أو تكون دميمة، فيريد فراقها، فتصالحه على أن يكون عندها ليلة، وعند الأخرى ليالي ولا يفارقها، فما طابت به نفسها، فلا بأس به، فإن رجعت سوّى بينهما‏.‏ وقد ورد عن جماعة من الصحابة نحو هذا، وثبت في الصحيحين من حديث عائشة قالت‏:‏ لما كبرت سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لها بيوم سودة‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح‏}‏ قال‏:‏ هواه في الشيء يحرص عليه، وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النساء‏}‏ قال‏:‏ في الحبّ والجماع، وفي قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل فَتَذَرُوهَا كالمعلقة‏}‏ قال‏:‏ لا هي أيمة ولا ذات زوج‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن المنذر عن عائشة قالت‏:‏ «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه، فيعدل، ثم يقول‏:‏ ‏"‏ اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ‏"‏ وإسناده صحيح‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وعبد بن حميد، وأهل السنن عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من كانت له امرأتان، فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة، وأحد شقيه ساقط ‏"‏ قال الترمذي‏:‏ إنما أسنده همام‏.‏ ورواه هشام الدستوائي عن قتادة قال‏:‏ كان يقال، ولا يعرف هذا الحديث مرفوعاً إلا من حديث همام‏.‏ وأخرج ابن المنذر، عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النساء‏}‏ قال‏:‏ الجماع‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، عن الحسن قال‏:‏ الحبّ‏.‏